فصل: الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحَارِبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.كِتَابُ السَّرِقَةِ:

وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ، وَفِي شُرُوطِ الْمَسْرُوقِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَفِي صِفَاتِ السَّارِقِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَفِي الْعُقُوبَةِ، وَفِيمَا تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ.

.[تَعْرِيفُ السَّرِقَةِ]:

فَأَمَّا السَّرِقَةُ، فَهِيَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ مُسْتَتِرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخِيَانَةِ وَلَا فِي الِاخْتِلَاسِ قَطْعٌ إِلَّا إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ أَوْجَبَ فِي الْخِلْسَةِ الْقَطْعَ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَأَوْجَبَ أَيْضًا قَوْمٌ الْقَطْعَ عَلَى مَنِ اسْتَعَارَ حُلِيًّا أَوْ مَتَاعًا ثُمَّ جَحَدَهُ لِمَكَانِ حَدِيثِ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الْمَشْهُورِ:أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْحُلِيَّ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَهَا لِمَوْضِعِ جُحُودِهَا. وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْحَدِيثُ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَطْعِ يَدِهَا، فَأَتَى أُسَامَةَ أَهْلُهَا فَكَلَّمُوهُ، فَكَلَّمَ أُسَامَةُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَا أُسَامَةُ لَا أَرَاكَ تَتَكَلَّمُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُهَا» وَرَدَّ الْجُمْهُورُ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعَارَ مَأْمُونٌ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَضْلًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حِرْزٍ، قَالُوا: وَفِي الْحَدِيثِ حَذْفٌ، وَهُوَ أَنَّهَا سَرَقَتْ مَعَ أَنَّهَا جَحَدَتْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ» قَالُوا: وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ، فَقَالَ: فِيهِ: «إِنَّ الْمَخْزُومِيَّةَ سَرَقَتْ»، قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَعَلَتِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا الْجَحْدَ وَالسَّرِقَةَ. وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا عَلَى الْمُكَابِرِ الْمُغَالِبِ قَطْعٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَاطِعَ طَرِيقٍ شَاهِرًا لِلسِّلَاحِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُخِيفًا لِلسَّبِيلِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُحَارِبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي حَدِّ الْمُحَارِبِ.

.[الْقَوْلُ فِي السَّارِقِ]:

وَأَمَّا السَّارِقُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَسَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَوْ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، إِلَّا مَا رُوِيَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْخِلَافِ فِي قَطْعِ يَدِ الْعَبْدِ الْآبِقِ إِذَا سَرَقَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانَ، وَمَرْوَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ بَعْدَ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَنْعَقِدُ بَعْدَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِي الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُ قَطْعِيَّةً، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ تَمَسَّكَ بِعُمُومِ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ، وَلَا عِبْرَةَ لِمَنْ لَمْ يَرَ الْقَطْعَ عَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ إِلَّا تَشْبِيهَهُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ بِسُقُوطِ شَطْرِهِ (أَعْنِي: الْحُدُودُ الَّتِي تَتَشَطَّرُ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ)، وَهُوَ تَشْبِيهٌ ضَعِيفٌ.

.[الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ الْمَسْرُوقِ]:

وَأَمَّا الْمَسْرُوقُ فَإِنَّ لَهُ شَرَائِطَ مُخْتَلَفًا فِيهَا. فَمِنْ أَشْهَرِهَا: اشْتِرَاطُ النِّصَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى اشْتِرَاطِهِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْقَطْعُ فِي قَلِيلِ الْمَسْرُوقِ وَكَثِيرِهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الْآيَةَ. وَرُبَّمَا احْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ». وَبِهِ قَالَتِ الْخَوَارِجُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَالَّذِينَ قَالُوا بِاشْتِرَاطِ النِّصَابِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، إِلَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَشْهُورَ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي يَسْتَنِدُ إِلَى أَدِلَّةٍ ثَابِتَةٍ، وَهُوَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَالثَّانِي: قَوْلُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ.
وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْحِجَازِ فَأَوْجَبُوا الْقَطْعَ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنَ الْفِضَّةِ، وَرُبُعِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا تُقَوَّمُ بِهِ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ الْمَسْرُوقَةِ مِمَّا عَدَّا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ: تُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ لَا بِالرُّبُعِ دِينَارٍ (أَعْنِي: إِذَا اخْتَلَفَتِ الثَّلَاثَةُ دَرَاهِمَ مَعَ الرُّبُعِ دِينَارٍ لِاخْتِلَافِ الصَّرْفِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الرُّبُعُ دِينَارٍ فِي وَقْتٍ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَصْلُ فِي تَقْوِيمِ الْأَشْيَاءِ هُوَ الرُّبُعُ دِينَارٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ أَيْضًا لِلدَّرَاهِمِ فَلَا يُقْطَعُ عِنْدَهُ فِي الثَّلَاثَةِ دَرَاهِمَ إِلَّا أَنْ تُسَاوِيَ رُبُعَ دِينَارٍ.
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَالدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ وَقَدْ رَوَى بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ عَنْهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي تَقْوِيمِ الْعُرُوضِ إِلَى الْغَالِبِ فِي نُقُودِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الدَّرَاهِمَ قُوِّمَتْ بِالدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الدَّنَانِيرَ قُوِّمَتْ بِالرُّبُعِ دِينَارٍ، وَأَظُنُّ أَنَّ فِي الْمَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الرُّبُعَ دِينَارٍ يُقَوَّمُ بِالثَّلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّقْوِيمِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَدَاوُدُ، وَبِقَوْلِ مَالِكٍ الْمَشْهُورِ قَالَ أَحْمَدُ (أَعْنِي: بِالتَّقْوِيمِ بِالدَّرَاهِمِ).
وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ فَالنِّصَابُ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ هُوَ عِنْدَهُمْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لَا يَجِبُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَقَدْ قِيلَ: فِي أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: فِي دِرْهَمَيْنِ. فَعُمْدَةُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ»، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَوْقَفَهُ مَالِكٌ وَأَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».
وَأَمَّا عُمْدَةُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ، قَالُوا: وَلَكِنَّ قِيمَةَ الْمِجَنِّ هُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ. وَقَدْ خَالَفَ ابْنَ عُمَرَ فِي قِيمَةِ الْمِجَنِّ مِنَ الصَّحَابَةِ كَثِيرٌ مِمَّنْ رَأَى الْقَطْعَ فِي الْمِجَنِّ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ». قَالُوا: وَإِذَا وُجِدَ الْخِلَافُ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ وَجَبَ أَنْ لَا تُقْطَعَ الْيَدُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ هُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ لَوْلَا حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجَعَلَ الْأَصْلَ هُوَ الرُّبُعُ دِينَارٍ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَاعْتَضَدَ عِنْدَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ الَّذِي رَوَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ قَوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَذِرُ عَنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الصَّرْفَ كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اثْنَيْ عَشْرَةَ دِرْهَمًا، وَالْقَطْعُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَحْفَظُ لِلْأَمْوَالِ، وَالْقَطْعُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَدْخَلُ فِي بَابِ التَّجَاوُزِ وَالصَّفْحِ عَنْ يَسِيرِ الْمَالِ وَشَرَفِ الْعُضْوِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَفِعْلِ عُثْمَانَ مُمْكِنٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى الْمَذَاهِبِ، فَهَذَا هُوَ أَحَدُ الشُّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةِ بِالْقَطْعِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ مَشْهُورٍ وَهُوَ إِذَا سَرَقَتِ الْجَمَاعَةُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ (أَعْنِي: نِصَابًا) دُونَ أَنْ يَكُونَ حَظُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، وَذَلِكَ أَنْ يُخْرِجُوا النِّصَابَ مِنَ الْحِرْزِ مَعًا، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِدْلًا أَوْ صُنْدُوقًا يُسَاوِي النِّصَابَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعُونَ جَمِيعًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَكُونَ مَا أَخَذَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا. فَمَنَ قَطَعَ الْجَمِيعَ رَأَى الْعُقُوبَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِقَدْرِ مَالِ الْمَسْرُوقِ (أَيْ: أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْقَطْعَ لِحِفْظِ الْمَالِ)، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْقَطْعَ إِنَّمَا عُلِّقَ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا بِمَا دُونَهُ لِمَكَانِ حُرْمَةِ الْيَدِ قَالَ: لَا تُقْطَعُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ فِيمَا أَوْجَبَ فِيهِ الشَّرْعُ قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ. وَاخْتَلَفُوا مَتَى يُقَدَّرُ الْمَسْرُوقُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَوْمَ السَّرِقَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَوْمَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي فِي وُجُوبِ هَذَا الْحَدِّ فَهُوَ الْحِرْزُ، وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ تَدُورُ عَلَيْهِمُ الْفَتْوَى وَأَصْحَابُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحِرْزِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ حِرْزٌ مِمَّا لَيْسَ بِحِرْزٍ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ فِي حَدِّ الْحِرْزِ إِنَّهُ مَا شَأْنُهُ أَنْ تُحْفَظَ بِهِ الْأَمْوَالُ كَيْ يَعْسُرَ أَخْذُهَا مِثْلَ الْإِغْلَاقِ وَالْحَظَائِرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَفِي الْفِعْلِ الَّذِي إِذَا فَعَلَهُ السَّارِقُ اتَّصَفَ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْحِرْزِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُهُمْ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: الْقَطْعُ عَلَى مَنْ سَرَقَ النِّصَابَ وَإِنْ سَرَقَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ. فَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ، فَإِذَا أَوَاهُ الْمُرَاحُ أَوِ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ». وَمُرْسَلُ مَالِكٍ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكِّيِّ بِمَعْنَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ. وَعُمْدَةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الْآيَةَ. قَالُوا: فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا، إِلَّا مَا خَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ خَصَّصَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ الْمِقْدَارَ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ مِنَ الَّذِي لَا يُقْطَعُ فِيهِ.
وَرَدُّوا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ لِمَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ فِي أَحَادِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَحَادِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْعَمَلُ بِهَا وَاجِبٌ إِذَا رَوَاهَا الثِّقَاتُ.
وَأَمَّا الْحِرْزُ عِنْدَ الَّذِينَ أَوْجَبُوهُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا مِنْهُ عَلَى أَشْيَاءَ وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ، مِثْلَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ بَابَ الْبَيْتِ وَغَلْقَهُ حِرْزٌ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَوْعِيَةِ. وَمِثْلَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ دَارٍ غَيْرِ مُشْتَرَكَةِ السُّكْنَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الدَّارِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَكَثِيرٌ مِمَّنِ اشْتَرَطَ الْحِرْزَ: تُقْطَعُ يَدُهُ إِذَا أُخْرِجَ مِنَ الْبَيْتِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا أُخْرِجَ مِنَ الدَّارِ. وَمِنْهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقَبْرِ هَلْ هُوَ حِرْزٌ حَتَّى يَجِبَ الْقَطْعُ عَلَى النَّبَّاشِ، أَوْ لَيْسَ بِحِرْزٍ؟
فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَجَمَاعَةٌ: هُوَ حِرْزٌ، وَعَلَى النَّبَّاشِ الْقَطْعُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَالْحِرْزُ عِنْدَ مَالِكٍ بِالْجُمْلَةِ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ جَرَتِ الْعَادَةُ بِحِفْظِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ فِيهِ، فَمَرَابِطُ الدَّوَابِّ عِنْدَهُ أَحْرَازٌ، وَكَذَلِكَ الْأَوْعِيَةُ، وَمَا عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ اللِّبَاسِ، فَالْإِنْسَانُ حِرْزٌ لِكُلِّ مَا عَلَيْهِ أَوْ هُوَ عِنْدَهُ. وَإِذَا تَوَسَّدَ النَّائِمُ شَيْئًا فَهُوَ حِرْزٌ لَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسَيَأْتِي بَعْدُ، وَمَا أَخَذَهُ مِنَ الْمُنْتَبِهِ فَهُوَ اخْتِلَاسٌ. وَلَا يُقْطَعُ عِنْدَ مَالِكٍ سَارِقُ مَا كَانَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنَ الْحُلِيِّ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ حَافِظٌ يَحْفَظُهُ، وَمَنْ سَرَقَ مِنَ الْكَعْبَةِ شَيْئًا لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَذْهَبِ إِنَّهُ إِنْ سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا قُطِعَ. وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ فِيمَا هُوَ حِرْزٌ وَمَا لَيْسَ بِحِرْزٍ. وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْحِرْزِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ سُمِّيَ مُخْرِجًا لِلشَّيْءِ مِنْ حِرْزِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَسَوَاءٌ كَانَ دَاخِلَ الْحِرْزِ أَوْ خَارِجَهُ. وَإِذَا تَرَدَّدَتِ التَّسْمِيَةُ وَقَعَ الْخِلَافُ، مِثْلَ اخْتِلَافِ الْمَذْهَبِ إِذَا كَانَ سَارِقَانِ أَحَدُهُمَا دَاخِلَ الْبَيْتِ، وَالْآخَرُ خَارِجَهُ، فَقَرَّبَ أَحَدُهُمَا الْمَتَاعَ الْمَسْرُوقَ إِلَى ثُقْبٍ فِي الْبَيْتِ فَتَنَاوَلَهُ الْآخَرُ، فَقِيلَ: الْقَطْعُ عَلَى الْخَارِجِ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ، وَقِيلَ: لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقِيلَ: الْقَطْعُ عَلَى الْمُقَرِّبِ لِلْمَتَاعِ مِنَ الثُّقْبِ. وَالْخِلَافُ فِي هَذَا كُلِّهِ آيِلٌ إِلَى انْطِلَاقِ اسْمِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْحِرْزِ عَلَيْهِ أَوْ لِانْطِلَاقِهِ. فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي الْحِرْزِ وَاشْتِرَاطِهِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ. وَمَنْ رَمَى بِالْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ ثُمَّ أَخَذَهُ خَارِجَ الْحِرْزِ فَقُطِعَ، وَقَدْ تَوَقَّفَ مَالِكٌ فِيهِ إِذَا أُخِذَ بَعْدَ رَمْيِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْطَعُ.

.فَصْلٌ: [فِي جِنْسِ الْمَسْرُوقِ]:

وَأَمَّا جِنْسُ الْمَسْرُوقِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مُتَمَلَّكٍ غَيْرَ نَاطِقٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَأَخْذُ الْعِوَضِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي سَرِقَتِهِ الْقَطْعُ مَا عَدَا الْأَشْيَاءَ الرَّطْبَةَ الْمَأْكُولَةَ، وَالْأَشْيَاءَ الَّتِي أَصْلُهَا مُبَاحَةٌ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ فِي كُلِّ مُتَمَوَّلٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَأَخْذُ الْعِوَضِ فِيهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ وَلَا فِيمَا أَصْلُهُ مُبَاحٌ كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ. فَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ عُمُومُ الْآيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ وَعُمُومُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ. وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَنْعِهِ الْقَطْعَ فِي الطَّعَامِ الرَّطْبِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ»، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رُوِيَ هَكَذَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. وَعُمْدَتُهُ أَيْضًا فِي مَنْعِ الْقَطْعِ فِيمَا أَصْلُهُ مُبَاحٌ الشُّبْهَةُ الَّتِي فِيهِ لِكُلِّ مَالِكٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَسْرُوقِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فِيهِ شُبْهَةُ مِلْكٍ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ مِمَّا لَيْسَ بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا هُوَ أَيْضًا أَحَدُ الشُّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْمَسْرُوقِ هُوَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي جِنْسِهِ، وَقَدْرِهِ، وَشُرُوطِهِ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا بَعْدُ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ (أَعْنِي: مِنَ النَّظَرِ فِي جِنْسِ الْمَسْرُوقِ) فِي الْمُصْحَفِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُقْطَعُ سَارِقُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، أَوْ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ فِيهِ حَقًّا إِذْ لَيْسَ بِمَالٍ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِيمَنْ سَرَقَ صَغِيرًا مَمْلُوكًا أَعْجَمِيًّا مِمَّنْ لَا يَفْقَهُ وَلَا يَعْقِلُ الْكَلَامَ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يُقْطَعُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ كَبِيرًا يَفْقَهُ فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْحُرِّ الصَّغِيرِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ سَارِقَهُ يُقْطَعُ، وَلَا يُقْطَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَاتَّفَقُوا كَمَا قُلْنَا أَنَّ شُبْهَةَ الْمِلْكِ الْقَوِيَّةَ تَدْرَأُ هَذَا الْحَدَّ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ شُبْهَةٌ يَدْرَأُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدْرَأُ مِنْهَا. فَمِنْهَا الْعَبْدُ يَسْرِقُ مَالَ سَيِّدِهِ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْطَعُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَرْطًا، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: يُقْطَعُ إِلَّا أَنْ يَأْتَمِنَهُ سَيِّدُهُ. وَاشْتَرَطَ مَالِكٌ فِي الْخَادِمِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُدْرَأَ عَنْهُ الْحَدُّ أَنْ يَكُونَ يَلِي الْخِدْمَةَ لِسَيِّدِهِ بِنَفْسِهِ، وَالشَّافِعِيُّ مَرَّةً اشْتَرَطَ هَذَا وَمَرَّةً لَمْ يَشْتَرِطْهُ. وَبِدَرْءِ الْحَدِّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ. وَمِنْهَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ يَسْرِقُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَنْفَرِدُ بِبَيْتٍ فِيهِ مَتَاعُهُ فَالْقَطْعُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا قَطْعَ عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِشُبْهَةِ الِاخْتِلَاطِ وَشُبْهَةِ الْمَالِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. وَمِنْهَا الْقَرَابَاتُ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِيهَا أَنْ لَا يُقْطَعَ الْأَبُ فِيمَا سَرَقَ مِنْ مَالِ الِابْنِ فَقَطْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَيُقْطَعُ كُلُّ مَا سِوَاهُمْ مِنَ الْقَرَابَاتِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْطَعُ عَمُودُ النَّسَبِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ (يَعْنِي: الْأَبَ وَالْأَجْدَادَ وَالْأَبْنَاءَ وَأَبْنَاءَ الْأَبْنَاءِ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ ذُو الرَّحِمِ الْمُحَرَّمَةِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: تُقْطَعُ يَدُ كُلِّ مَنْ سَرَقَ إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الْإِجْمَاعُ. وَمِنْهَا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ سَرَقَ مِنَ الْغَنَمِ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُقْطَعُ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِهِ: لَا يُقْطَعُ. فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا مَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ.
الْقَوْلُ فِي الْوَاجِبِ وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ إِذَا وُجِدَتْ بِالصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا (أَعْنِي: الْمَوْجُودَةَ فِي السَّارِقِ وَفِي الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ وَفِي صِفَةِ السَّرِقَةِ)، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقَطْعُ مِنْ حَيْثُ هِيَ جِنَايَةٌ، وَالْغُرْمُ إِذَا لَمْ يَجِبِ الْقَطْعُ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُجْمَعُ الْغُرْمُ مَعَ الْقَطْعِ للسارق؟
فَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ الْغُرْمُ مَعَ الْقَطْعِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَجَمَاعَةٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمٌ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ، وَفَرَّقَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مُوسِرًا أُتْبِعَ السَّارِقُ بِقِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يُتْبَعْ بِهِ إِذَا أَثْرَى، وَاشْتَرَطَ مَالِكٌ دَوَامَ الْيُسْرِ إِلَى يَوْمِ الْقَطْعِ فِيمَا حَكَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. فَعُمْدَةُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي السَّرِقَةِ حَقَّانِ: حَقٌّ لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، فَاقْتَضَى كُلٌّ حَقٍّ مُوجَبَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ إِذَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ لَزِمَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ بِعَيْنِهِ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ فِي ضَمَانِهِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ الْوَاجِبَةِ. وَعُمْدَةُ الْكُوفِيِّينَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَغْرَمُ السَّارِقُ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُضَعَّفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَقْطُوعٌ، قَالَ: وَقَدْ وَصَلَهُ بَعْضُهُمْ، وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ. وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ: إِنَّ اجْتِمَاعَ حَقَّيْنِ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ، وَيَقُولُونَ إِنَّ الْقَطْعَ هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْغُرْمِ، وَمِنْ هُنَا يَرَوْنَ أَنَّهُ إِذَا سَرَقَ شَيْئًا مَا فَقُطِعَ فِيهِ ثُمَّ سَرَقَهُ ثَانِيًا أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيهِ.
وَأَمَّا تَفْرِقَةُ مَالِكٍ فَاسْتِحْسَانٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَأَمَّا الْقَطْعُ فَالنَّظَرُ فِي مَحَلِّهِ وَفِيمَنْ سَرَقَ وَقَدْ عُدِمَ الْمَحَلُّ. أَمَّا مَحَلُّ الْقَطْعِ في السارق فَهُوَ الْيَدُ الْيُمْنَى بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْكُوعِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ قَوْمٌ: الْأَصَابِعُ فَقَطْ. فَأَمَّا إِذَا سَرَقَ مَنْ قَدْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ: تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى بَعْدَ الْيَدِ الْيُمْنَى، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ: تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُسْرَى بَعْدَ الْيُمْنَى، وَلَا يُقْطَعُ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى بَعْدَ الْيَدِ الْيُمْنَى، هَلْ يَقِفُ الْقَطْعُ إِنْ سَرَقَ ثَالِثَةً أَمْ لَا؟
فَقَالَ سُفْيَانُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَقِفُ الْقَطْعُ فِي الرِّجْلِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ الْغُرْمُ فَقَطْ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ سَرَقَ ثَالِثَةً قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ رَابِعَةً قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَأَبِي بَكْرٍ (أَعْنِي: قَوْلَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ). فَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَرَ إِلَّا قَطْعَ الْيَدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَرْجُلَ إِلَّا فِي الْمُحَارِبِينَ فَقَطْ. وَعُمْدَةُ مَنْ قَطَعَ الرِّجْلَ بَعْدَ الْيَدِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِعَبْدٍ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أَتَى بِهِ فِي الثَّالِثَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَقَطَعَ رِجْلَهُ»، وَرُوِيَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِيه: «ثُمَّ أَخَذَهُ الْخَامِسَةَ فَقَتَلَهُ»، إِلَّا أَنَّهُ مُنْكَرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ»، وَلَمْ يَذْكُرْ قَتْلًا. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ الرِّجْلَ بَعْدَ الْيَدِ»، وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ فِي الْخَامِسَةِ. فَإِذَا ذَهَبَ مَحَلُّ الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ سَرِقَةٍ بِأَنْ كَانَتِ الْيَدُ شَلَّاءَ، فَقِيلَ فِي الْمَذْهَبِ: يَنْتَقِلُ الْقَطْعُ إِلَى الْيَدِ الْيُسْرَى، وَقِيلَ: إِلَى الرِّجْلِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنَ الْقَدَمِ، فَقِيلَ: يُقْطَعُ مِنَ الْمَفْصِلِ الَّذِي فِي أَصْلِ السَّاقِ، وَقِيلَ: يَدْخُلُ الْكَعْبَانِ فِي الْقَطْعِ، وَقِيلَ: لَا يَدْخُلَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تُقْطَعُ مِنَ الْمَفْصِلِ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ السَّرِقَةِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ السَّارِقِ مَا لَمْ يُرْفَعْ ذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعَافَوُا الْحُدُودَ بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ»، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَأَقَمْتُ عَلَيْهَا الْحَدَّ»، وَقَوْلُهُ لِصَفْوَانَ: «هَلَّا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟
»
. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّارِقِ يَسْرِقُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ فَيُرْفَعُ إِلَى الْإِمَامِ وَقَدْ وَهَبَهُ صَاحِبُ السَّرِقَةِ مَا سَرَقَهُ، أَوْ يَهَبُهُ لَهُ بَعْدَ الرَّفْعِ وَقَبْلَ الْقَطْعِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ قَدْ رُفِعَ إِلَى الْإِمَامِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ. فَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: «إِنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ، فَقَدِمَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ فَجَاءَ سَارِقٌ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَخَذَ صَفْوَانُ السَّارِقَ فَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، فَقَالَ صَفْوَانُ: لَمْ أُرِدْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».
الْقَوْلُ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ السَّرِقَةُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَعَلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْحُرِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِقْرَارِ الْعَبْدِ بالسرقة، فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ مُوجِبٌ لِحَدِّهِ، وَلَيْسَ يُوجِبُ عَلَيْهِ غُرْمًا، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجِبُ إِقْرَارُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ وَلَا قَطْعَ يَدِهِ لِكَوْنِهِ مَالًا لِمَوْلَاهُ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَجَمَاعَةٌ. وَإِنْ رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ إِلَى شُبْهَةٍ قَبْلَ رُجُوعِهِ. وَإِنْ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، هَكَذَا حَكَى الْبَغْدَادِيُّونَ عَنِ الْمَذْهَبِ، وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لَيْسَ يَلِيقُ بِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِنَّمَا هُوَ لَائِقٌ بِتَفْرِيعِ الْمَذْهَبِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

.كِتَابُ الْحِرَابَةِ:

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَةَ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ فِي الْمُحَارِبِينَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا فِي زَمَانِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فِي الْمُحَارِبِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وَلَيْسَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ مُشْتَرَطَةً فِي تَوْبَةِ الْكُفَّارِ فَبَقِيَ أَنَّهَا فِي الْمُحَارِبِينَ. وَالنَّظَرُ فِي أُصُولِ هَذَا الْكِتَابِ يَنْحَصِرُ فِي خَمْسَةِ أَبْوَابٍ:
أَحَدُهَا: النَّظَرُ فِي الْحِرَابَةِ.
وَالثَّانِي: النَّظَرُ فِي الْمُحَارِبِ.
وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحَارِبِ.
وَالرَّابِعُ: فِي مُسْقِطِ الْوَاجِبِ عَنْهُ وَهِيَ التَّوْبَةُ.
وَالْخَامِسُ: بِمَاذَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْجِنَايَةُ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي النَّظَرِ فِي الْحِرَابَةِ:

فَأَمَّا الْحِرَابَةُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا إِشْهَارُ السِّلَاحِ وَقَطْعُ السَّبِيلِ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ حَارَبَ دَاخِلَ الْمِصْرِ، فَقَالَ مَالِكٌ: دَاخِلَ الْمِصْرِ وَخَارِجَهُ سَوَاءٌ، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ الشَّوْكَةَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطِ الْعَدَدَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الشَّوْكَةِ عِنْدَهُ قُوَّةُ الْمُغَالَبَةِ، وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ، لِأَنَّ الْمُغَالَبَةَ إِنَّمَا تَتَأَتَّى بِالْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّهُ إِذَا ضَعُفَ السُّلْطَانُ وَوُجِدَتِ الْمُغَالَبَةُ فِي الْمِصْرِ كَانَتْ مُحَارَبَةً، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَهُوَ عِنْدَهُ اخْتِلَاسٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ فِي الْمِصْرِ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي النَّظَرِ فِي الْمُحَارِبِ:

فَأَمَّا الْمُحَارِبُ: فَهُوَ كُلُّ مَنْ كَانَ دَمُهُ مَحْقُونًا قَبْلَ الْحِرَابَةِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ.

.الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحَارِبِ:

وَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحَارِبِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حَقَّ اللَّهِ هُوَ الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ وَقَطْعُ الْأَيْدِي وَقَطْعُ الْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ، وَالنَّفْيُ عَلَى مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْحِرَابَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ هَلْ هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَوْ مُرَتَّبَةٌ عَلَى قَدْرِ جِنَايَةِ الْمُحَارِبِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَتَلَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَخْيِيرٌ فِي قَطْعِهِ وَلَا فِي نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ.
وَأَمَّا إِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ فَلَا تَخْيِيرَ فِي نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافٍ.
وَأَمَّا إِذَا أَخَافَ السَّبِيلَ فَقَطْ فَالْإِمَامُ عِنْدَهُ مُخَيَّرٌ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ أَوْ قَطْعِهِ أَوْ نَفْيِهِ. وَمَعْنَى التَّخْيِيرِ عِنْدَهُ أَنَّ الْأَمْرَ رَاجِعٌ فِي ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ الْمُحَارِبُ مِمَّنْ لَهُ الرَّأْيُ وَالتَّدْبِيرُ، فَوَجْهُ الِاجْتِهَادِ قَتْلُهُ أَوْ صَلْبُهُ، لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَرْفَعُ ضَرَرَهُ. وَإِنْ كَانَ لَا رَأْيَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ ذُو قُوَّةٍ وَبَأْسٍ قَطَعَهُ مِنْ خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ أَخَذَ بِأَيْسَرِ ذَلِكَ فِيهِ وَهُوَ الضَّرْبُ وَالنَّفْيُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ هِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْجِنَايَاتِ الْمَعْلُومِ مِنَ الشَّرْعِ تَرْتِيبُهَا عَلَيْهِ، فَلَا يُقْتَلُ مِنَ الْمُحَارِبِينَ إِلَّا مَنْ قَتَلَ، وَلَا يُقْطَعُ إِلَّا مَنْ أَخَذَ الْمَالَ، وَلَا يُنْفَى إِلَّا مَنْ لَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَلَا قَتَلَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَوَاءٌ قَتَلَ أَمْ لَمْ يَقْتُلْ، أَخَذَ الْمَالَ أَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ حَرْفُ (أَوْ) فِي الْآيَةِ لِلتَّخْيِيرِ أَوْ لِلتَّفْصِيلِ عَلَى حَسَبِ جِنَايَاتِهِمْ؟
وَمَالِكٌ حَمَلَ الْبَعْضَ مِنَ الْمُحَارِبِينَ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَالْبَعْضَ عَلَى التَّخْيِيرِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَوْ يُصَلَّبُوا} فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ يُصْلَبُ حَتَّى يَمُوتَ جُوعًا، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ مَعًا. وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْتَلُ أَوَّلًا ثُمَّ يُصْلَبُ، وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ، وَقِيلَ إِنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُقْتَلُ فِي الْخَشَبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يُقْتَلُ أَوَّلًا ثُمَّ يُصْلَبُ صُلِّيَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ قَبْلَ الصَّلْبِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْخَشَبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ تَنْكِيلًا لَهُ، وَقِيلَ: يَقِفُ خَلْفَ الْخَشَبَةِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: إِذَا قُتِلَ فِي الْخَشَبَةِ أُنْزِلَ مِنْهَا وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.
وَهَلْ يُعَادُ إِلَى الْخَشَبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؟
فِيهِ قَوْلَانِ عَنْهُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى الْخَشَبَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَأَمَّا قَوْلُه: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} فَمَعْنَاهُ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ إِنْ عَادَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى. وَاخْتُلِفَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ الْيُمْنَى، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى، وَقَالَ أَشْهَبُ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى.
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}، فَقِيلَ إِنَّ النَّفْيَ هُوَ السَّجْنُ، وَقِيلَ إِنَّ النَّفْيَ هُوَ أَنْ يُنْفَى مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فَيُسْجَنَ فِيهِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، وَيَكُونُ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ أَقَلُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَعْنَى النَّفْيِ هُوَ فِرَارُهُمْ مِنَ الْإِمَامِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا أَنْ يُنْفَى بَعْدَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ فَلَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَمَّا النَّفْيُ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ، وَلَكِنْ إِنْ هَرَبُوا شَرَّدْنَاهُمْ فِي الْبِلَادِ بِالِاتِّبَاعِ، وَقِيلَ: هِيَ عُقُوبَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَقِيلَ عَلَى هَذَا يُنْفَى وَيُسْجَنُ دَائِمًا، وَكُلُّهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَوْ يُنْفَوْا أَيْ: مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَرْضِ الْحَرْبِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ أَنَّ النَّفْيَ تَغْرِيبُهُمْ عَنْ وَطَنِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} الْآيَةَ. فَسَوَّى بَيْنَ النَّفْيِ وَالْقَتْلِ، وَهِيَ عُقُوبَةٌ، مَعْرُوفَةٌ، بِالْعَادَةِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ كَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، وَكُلُّ مَا يُقَالُ فِيهِ سِوَى هَذَا فَلَيْسَ مَعْرُوفًا لَا بِالْعَادَةِ وَلَا بِالْعُرْفِ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ فِي مُسْقِطِ الْوَاجِبِ عَنْهُ مِنَ التَّوْبَةِ:

وَأَمَّا مَا يُسْقِطُ الْحَقَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}. وَاخْتُلِفَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟
وَالثَّانِي: إِنْ قُبِلَتْ فَمَا صِفَةُ الْمُحَارِبِ الَّذِي تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟
فَإِنَّ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: قَوْلٌ إِنَّهُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَهُوَ أَشْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وَقَوْلٌ: إِنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَ إِنَّ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ فِي الْمُحَارِبِينَ.
وَالثَّالِثُ: وَأَمَّا صِفَةُ التَّوْبَةِ الَّتِي تُسْقِطُ الْحُكْمَ عن المحارب فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ تَوْبَتَهُ تَكُونُ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْإِمَامَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُلْقِيَ سِلَاحَهُ وَيَأْتِيَ الْإِمَامَ طَائِعًا.
وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ تَوْبَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ بِأَنْ يَتْرُكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَيَجْلِسَ فِي مَوْضِعِهِ وَيَظْهَرَ لِجِيرَانِهِ، وَإِنْ أَتَى الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ تَوْبَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْمَجِيءِ إِلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ تَرَكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ لَمْ يُسْقِطْ ذَلِكَ عَنْهُ حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ إِنْ أُخِذَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامُ، وَتَحْصِيلُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ تَوْبَتَهُ قِيلَ إِنَّهَا تَكُونُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ إِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ فَقَطْ، وَقِيلَ تَكُونُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.
وَأَمَّا صِفَةُ الْمُحَارِبِ الَّذِي تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهَا أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لَهُ فِئَةٌ.
وَالثَّالِثُ: كَيْفَمَا كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ لَمْ يَلْحَقْ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا امْتَنَعَ فَأَمَّنَهُ الْإِمَامُ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ، فَقِيلَ لَهُ الْأَمَانُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْحِرَابَةِ، وَقِيلَ: لَا أَمَانَ لَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَمَّنُ الْمُشْرِكُ.
وَالرَّابِعُ: وَأَمَّا مَا تُسْقِطُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تُسْقِطُ عَنْهُ حَدَّ الْحِرَابَةِ فَقَطْ، وَيُؤْخَذُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ عَنْهُ حَدَّ الْحِرَابَةِ وَجَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ مِنَ الزِّنَى وَالشَّرَابِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَيُتَّبَعُ بِحُقُوقِ النَّاسِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّوْبَةَ تَرْفَعُ جَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ، وَيُؤْخَذُ بِالدِّمَاءِ وَفِي الْأَمْوَالِ بِمَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَا تُتَّبَعُ ذِمَمُهُمْ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ جَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مِنْ مَالٍ وَدَمٍ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ قَائِمَ الْعَيْنِ بِيَدِهِ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ بِمَاذَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْجِنَايَةُ:

وَأَمَّا بِمَاذَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَدُّ فَبِالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، وَمَالِكٌ يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْمَسْلُوبِينَ عَلَى الَّذِينَ سَلَبُوهُمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الرُّفْقَةِ عَلَيْهِمْ إِذَا لَمْ يَدَّعُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِرُفَقَائِهِمْ مَالًا أَخَذُوهُ الحرابة، وَتَثْبُتُ عِنْدَ مَالِكٍ الْحِرَابَةُ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ.
فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ عَلَى التَّأْوِيلِ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُحَارِبِينَ عَلَى التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ مُحَارِبَهُمُ الْإِمَامُ، فَإِذَا قُدِرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يُقْتَلْ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: إِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ رَأَى ذَلِكَ لِمَا يُخَافُ مِنْ عَوْنِهِ لِأَصْحَابِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا إِذَا أُسِرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْبِدْعِيِّ الَّذِي لَا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، فَقِيلَ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَقِيلَ يُسْتَتَابُ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ يُؤَدَّبُ وَلَا يُقْتَلُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْبِدَعِ إِنَّمَا يَكْفُرُونَ بِالْمَآلِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ (وَمَعْنَى التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ: أَنَّهُمْ لَا يُصَرِّحُونَ بِقَوْلٍ هُوَ كُفْرٌ، وَلَكِنْ يُصَرِّحُونَ بِأَقْوَالٍ يَلْزَمُ عَنْهَا الْكُفْرُ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ اللُّزُومَ).
وَأَمَّا مَا يَلْزَمُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْحُقُوقِ إِذَا ظُفِرَ بِهِمْ، فَحُكْمُهُمْ إِذَا تَابُوا أَنْ لَا يُقَامَ عَلَيْهِمْ حَدُّ الْحِرَابَةِ، وَلَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ مَا أَخَذُوا مِنَ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ بِيَدِهِ فَيُرَدَّ إِلَى رَبِّهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُقْتَلُ قِصَاصًا بِمَنْ قَتَلَ؟
فَقِيلَ يُقْتَلُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَأَصْبَغَ، وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُقْتَلُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَاتَلَ عَلَى التَّأْوِيلِ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ بَتَّةً، أَصْلُهُ قِتَالُ الصَّحَابَةِ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُكَذِّبُ لَا الْمُتَأَوِّلُ.